مرة عدت من معهد الفنون الجميلة وأنا في هياج وشكوك بعد أن سمعت من بعض الطلاب يقول إن الخزف ليس فناً بل حرفة. كنت أعشق الطين منذ صباي ، وكان مملكتي ومملكة والدي من قبلي . دخلت مشغل والدي وسألته : هل الخزف ليس فنا؟ ابتسم ولم يجبني. ثم أعدت عليه السؤال وقرأ قلقي .
قال لي : الكرافيك ليس فنا!
قلت : الزجاج مادة صناعية!
قال : الألوان الزيتية والأحبار مادة صناعية!
قلت : هناك وقت خاص للقطعة الخزفية داخل الفرن حتى ينضج الزجاج!
قال : وهناك وقت محدد لابقاء قطعت الزنك في الحامض!
قلت : حرارة الفرن العالية ومواد الزجاج المحضرة تعطيان العمل رونقه!
قال : خلط الأحبار مع الخبرة الكافية وعملية طباعة الورقة بالمكبس تعطي للعمل رونقه!
كان هذا جدلا مفيدا في وقته . ففيما عدا تهدئة خواطر شبابي والتأكد من صحة اختياراتي ، فإن يعدّ الخزف حرفة وليس فنا ،او فنا وليس حرفة ، ليست مشكلة جدلية ، بل مشكلة تحل بالعمل ، والاصل ان الخزف والكرافيك هما فنان وحرفتان في آن. وما بات مهما عند ابي ، وعندي في ما بعد ، هو ان كل عمل يحتاج الى وقت لكي ينضج ، وأن نعرف زمن نضوجه مثلما يعرف الطباخ زمن نضوج الطعام . وفي الفن كما في الحرفة يشكل نضوج العمل نضوج العامل .
إن الزمن في الممارسة هو صيرورة خاصة بالتعليم وحل المشكلات ، والخروج بالاشياء اكثر نضوجا . لكن الزمن هو مادة للمأساة الانسانية بوجه خاص .
تجربتي الفنية التي اقدمها تشكلت عندي بعد ست سنوات من مغادرة البلاد والعودة اليها . لعلّ هذه السنين ليست طويلة قياساً لمن غادر بلده منذ ثلاثين سنة او اكثر. أمر محير ان أنام في قارة بعيدة وأحلم في بغداد التي تعلمت فيها كل شيء جميل وذي قيمة عالية . اعيش في جسدي في مكان وقلبي يرف لآخر ، وفي أحلامي يزورني المكان الآخر بكل تعابيره . ما زلت أتذكر المكان الذي يوزع فيه كاظم حيدر وفائق حسن وخالد الرحال وآخرون كراسيهم التي يجلسون عليها في الظل أو في شمس شتاء بارد . عندما عدت الى المكان نفسه بدا شاقا أن استعيدهم مجددا في نفس المكان . لقد تغير الفضاء كله . بيتي نفسه تغير ، وجدرانه التي علقت عليها اروع اعمال الفنانين العراقيين بدا ليس هو . الحديقة اصبحت صحراء.. اين ورودنا ونباتاتنا التي كنا نرعاها؟ كان أبي يجلب بعض البذور من قبرص واليونان عن طريق ڤالنتينوس كرالمبس ، هذا الفنان المحسوب على الفن العراقي قبل أن يحسب على موطنه اليوناني .
لم يبق من تجربة طفولتي ويفاعتي في بلدي غير حالة شبحية .. لكأني ارى مخططات ارضية من اعلى ، ومن مسافة متعبة . تلك في الحقيقة التجربة التي اقدمها لكم اليوم ، وهي تجربة كل عراقي او مهاجر عربي غادر بلاده وسكن أكثر من وطن وبيت .. إنها تجربة تختلط فيها تعابير مختلفة ، فما بين أن يتذكر المرء كل تفاصيل حياته الاولى وكيفية تنقله من مكان الى آخر بسبب ظروف معينة أو هجرة قسرية ، كما في بلدنا الذي جرى احتلاله وتقديمه لقمة سائغة لآلهة العنف ، وما بين يأسه من إمكان ان يولد من جديد في مكان آخر من دون هم ولا أسف ولا أشباح تطارده من ماضيه .. لكن كيف؟
في هذا المعرض أقدم أعمالاً تركيبية من الخشب والفحم وأسلاك الكهرباء والمسامير وصحون خزفية. كل هذه المواد هي مواد أولية لبناء بيت وهمي على سطح هذه اللوحات كما أستعير بعض الصور الفوتوغرافية وورق جدران الحائط مع مواد رسم قليلة . إنني اجمع هنا شيئا من مشغل والدي ، شيئا من شوارع بغداد التي تظللها شبكة عنكبوتية من الأسلاك ، وشيئا من مخططات تلحّ على ذاكرتي . لعلي هنا أرسم خريطة متداخلة لعدة بيوت .. بيوت لم تعد لها مداخل بل نأتيها من اعلى وبأيدينا خريطة لسنا واثقين منها .. فكل ما حولنا يتغير .. ونحن ننضج .. نعم .. لكننا أكثر شعوراً بالوحدة.
دلير شاكر